"كان الأطفال الآخرون يخشون أن ينتقل لون بشرتي إلى جلدهم فكانوا يقولون لي: لا تلمسينا. آخرون كانوا يلقون بالقمامة في وجهي أو يرفضون نزول حمام السباحة معي" بهذه الكلمات الصادمة عبّرت آريانا مياموتو عن معاناتها من الرفض والتنمر أيام الطفولة في بلدها اليابان. على الرغم من أن اليابانيين مشهود لهم حول العالم بأنهم شعب مسالم لكن الأطفال، مرآة المجتمع الحقيقية، كانوا يعكسون عنفاً مقنعاً أساسه جهلهم لثقافة الاختلاف في بلدٍ أُحادي النسيج.
وُلدت آريانا مياموتو لأم يابانية وأب أمريكي أسود وهذا ما يفسر فرادة ملامحها. عينان يابانيتان بالانسيابية المميزة لعيون شعوب الشرق الأقصى المنتمين للعرق الأصفر، بشرة سوداء داكنة وشعر أسود كثيف أجعد يحدد جبهة عريضة ومستديرة تمتاز بها فتيات أفريقيا أما أسنان آريانا البيضاء فتكشف عنها ابتسامة لشفتين دقيقتين مرسومتين بريشة فنان.
تلك هي المتناقضات التي أبدع الخالق في مزجها لتكوين منحوتة حية هي فتاة آية في الروعة قررت أن تتحدى قواعد الجمال التقليدية اليابانية واشتركت في مسابقة ملكة جمال اليابان لعام 2015 فشهدنا النهاية السعيدة بل بالأحرى البداية المشرقة في رحلة حياة فتاة حصدت حصرم الاختلاف في طفولتها لكنها انتصرت بتتويجها ملكة جمال بعد قرابة عقدين من الزمن مفعمين بخبرات الرفض التي لا تحسد عليها.
كيف تحولت آريانا من ضحية إلى ملكة؟ كيف اعتلت عرش الجمال في بلد كان ولا زال من الصعب عليه تقبل الأمر؟ السبب في قرار مشاركتها في مسابقة الجمال كان انتحار صديقة لها كانت هي الآخرى مزدوجة العرق والجنسية. فها هي آريانا الآن تعتلي عرش قلوب الكثيرات من أمثالها ممن يعانين من القوالب والتعصب والصور النمطية في شتى المجتمعات والبلاد التي تدّعي في ظاهرها أنها تحترم الاختلاف والتنوع فتردد شعارات جوفاء عن "اللحمة الوطنية" و "النسيج الديني" و "التعايش الطائفي" و "الانسجام المذهبي" و "احترام الآخر المختلف" لكن واقع الأمر يقول عكس ذلك تماما فتتصاعد نغمات النشاز من شوارع ومدارس وصداقات تلفظ من جوفها أي فرد يجرؤ على الاختلاف سواء بالمظهر أو بالجوهر أو بكليهما معاً.
على الرغم من تحدثها اليابانية بطلاقة واحترافها لفن الخط الياباني إلا أن الآخرين ينظرون لها وكأنها أجنبية ففي المطاعم يقدمون لها قائمة الطعام باللغة الإنجليزية علما بأنه في اليابان وحدها يولد كل عام 20 ألف طفل مزدوجي الجنسية بسبب التزايد المستمر في ظاهرة الزواج من جنسيات أخرى غير يابانية. يُطلق عليهم باليابانية مصطلح: "هافو" فهم ليسوا يابانيين 100% لكنهم ليسوا أجانب تماما. تقول آريانا: "كلمة هافو تعطينا شعورا بالهوية والانتماء" لأن اليابانيين يعتقدون بأنهم عرق مميز وبأن شيفرتهم الوراثية تنحدر من سلالات خاصة جدا لا يمكن قبول اختلاطها بجينات لأعراق أخرى.
هذه النزعة النخبوية ليست حكرا على اليابانيين فحسب لأننا نلحظها بكل وضوح في مجتمعاتنا العربية: نحن لسنا مصريين نحن أولاد الفراعنة وما أدراك من هم الفراعنة، نحن لسنا سوريين نحن ننحدر من حضارة ما بين النهرين مهد أول أبجدية في الإنسانية ومنبع علوم شتى، نحن لسنا لبنانيين نحن أحفاد الفينيقيين العظماء أباطرة البر والبحر. هذا من الناحية البيولوجية أما لو دخلنا معترك الصراع الديني فسيشحذ كل منا أحدّ أسلحته وحججه ليثبت أن دينه هو الدين الأصح على الإطلاق فتبدأ سلسلة لا نهائية من أسباب الاعتداد بالنفس لتغذي نزعاتنا الطائفية فنحيك من خيوط التعصب شبكة نصطاد فيها فرائسنا ونغربل حياتنا لنعيش "بنقاء" تام وبمنأى عن أولئك "المختلفين".
هانحن على موعد مع أجندة مختلفة لملكة جمال مختلفة وضعت نصب أعينها محاربة التمييز العنصري خاصة ضد الأطفال المولودين لأبوين من أعراق مختلفة فتتحدانا أن نعيد صياغة قواعد الجمال الأربعين ليس فقط في اليابان بل في العالم أجمع كي تعتاد قلوبنا وعقولنا قبل أعيننا على رؤية الجمال في كل شخص أيا كان اختلافه عنا في الشكل أو اللون أو الجنس أو المعتقد. قد يحتاج الأمر إلى تدريب شاق وسنوات طوال من العمل المضني والقرار الواعي في حياة كل فرد فينا لكن آريانا أعطتنا جرعة أمل بمستقبل أفضل للأجيال القادمة يتساوى فيها الإنسان مع أخيه الإنسان رغم أي اختلاف فيعم القبول والمساواة على مقاعد الدراسة وفي وسائل المواصلات العامة وفي حمام السباحة.
رهام جرجور
حزيران\يونيو ٢٠١٥